حصر السلاح بيد الدولة… إشكالية السيادة بين منطق الدولة و واقع المقاومة .


يعود ملف حصر السلاح بيد الدولة إلى صدارة المشهد السياسي والأمني في العراق كلما تصاعدت الأزمات أو دخلت البلاد مرحلة إعادة ترتيب داخلي، باعتباره أحد أكثر الملفات تعقيدًا وتشابكًا مع تاريخ ما بعد 2003.


فالقضية لم تعد تقتصر على تنظيم أمني أو إجراء قانوني، بل تحولت إلى نقاش عميق يمس مفهوم الدولة نفسها، وحدود سلطتها، وطبيعة العلاقة بينها وبين القوى التي نشأت في ظل غيابها أو ضعفها.



منذ سقوط النظام السابق، شهد العراق انهيارًا شبه كامل في المنظومة الأمنية، ما فتح الباب أمام انتشار السلاح على نطاق واسع، سواء بيد المواطنين أو بيئة المقاومة.



و مع تصاعد التهديدات، لا سيما بعد عام 2014 واجتياح تنظيم داعش لمساحات واسعة من البلاد، تشكّل واقع جديد لعبت فيه فصائل المقاومة دورًا محوريًا في سد الفراغ الأمني، الأمر الذي جعل ملف السلاح مرتبطًا، في الوعي العام لبعض البيئات، بفكرة الحماية والبقاء أكثر من ارتباطه بالفوضى.




من وجهة نظر فصائل المقاومة ، فإن السلاح الذي تمتلكه لا يمكن فصله عن سياقه التاريخي. فهذه القوى ترى أن سلاحها لم ينشأ في مواجهة الدولة، بل في لحظة كانت الدولة فيها عاجزة عن حماية نفسها ومواطنيها.


و تؤكد أن هذا السلاح كان استجابة اضطرارية لتهديد وجودي، وأسهم بشكل مباشر في منع انهيار النظام السياسي، وحماية المدن، والحفاظ على وحدة البلاد.


وبحسب هذا الطرح، فإن التعامل مع سلاح الفصائل بمعزل عن هذه الخلفية يُعد قراءة مجتزأة للتاريخ وتجاهلًا لدور لعبته هذه التشكيلات في لحظات مصيرية.كما ترى الفصائل أن النقاش الدائر حول حصر السلاح يفتقر أحيانًا إلى التمييز بين السلاح المنفلت الذي يُستخدم في النزاعات العشائرية أو الجرائم الجنائية، وبين السلاح المنظم الذي يخضع لهيكلية وقرار وانضباط.و تعتبر أن وضع جميع أشكال السلاح في إطار واحد لا يخدم الأمن، بل يخلق حالة من الخلط بين الفوضى والسلاح الذي يرتبط بعقيدة دفاعية أو مقاومة.


و يضيف محللون أن التخلي عن السلاح في ظل بيئة إقليمية مضطربة، واستمرار التحديات الأمنية، و عدم اكتمال بناء المؤسسات العسكرية، يمثل مخاطرة قد تترك فراغًا لا يمكن تعويضه بسهولة.



في المقابل، تنطلق الدولة في مقاربتها لهذا الملف من منطلق مختلف، يقوم على أن السيادة لا يمكن أن تكون مجتزأة أو مشتركة.


فالحكومة تؤكد أن حصر السلاح بيد الدولة ليس شعارًا سياسيًا، بل مبدأ دستوري وقانوني تُبنى عليه الدول الحديثة.و ترى أن استمرار وجود قوى مسلحة خارج الإطار الرسمي، مهما كانت مبرراتها التاريخية، يؤدي إلى ازدواجية في القرار الأمني ويقوّض هيبة القانون، ويجعل الدولة عاجزة عن فرض النظام على نحو عادل ومتساوٍ.


وتحذر الجهات الرسمية من أن بقاء السلاح خارج السيطرة المؤسسية ينعكس سلبًا على الاستقرار السياسي والاقتصادي، إذ يضعف ثقة المواطن بالدولة، ويؤثر على بيئة الاستثمار، ويحوّل الخلافات السياسية إلى صراعات مسلحة محتملة.


كما يرى متخصصون أن إدارة الأمن لا يمكن أن تقوم على منطق تعدد مراكز القوة، وأن نجاح أي تجربة دولة مستقرة مرهون بوجود قيادة أمنية موحدة وقرار مركزي يخضع للسلطات الدستورية.


في هذا السياق، تؤكد الحكومة أن دعوتها لحصر السلاح لا تستهدف إلغاء الأدوار السابقة أو التنكر للتضحيات التي قُدمت في مواجهة الإرهاب، بل تهدف إلى الانتقال من مرحلة الطوارئ والاستثناء إلى مرحلة الدولة المستقرة.و تطرح الدولة مقاربة تقول إنها تدريجية وغير صدامية، تقوم على تطبيق القوانين النافذة، وتعزيز قدرات القوات الأمنية، وتنظيم العلاقة مع جميع الأطراف ضمن إطار مؤسسي واضح يخضع لسلطة الدولة وحدها.


وبين هاتين الرؤيتين، تبدو الأزمة أبعد من مجرد خلاف على السلاح، لتتحول إلى خلاف على تعريف الدولة نفسها.فالفصائل تنطلق من تجربة ترى فيها أن الدولة لم تكتمل بعد، وأن السلاح كان عامل توازن وحماية، فيما تنطلق الدولة من رؤية تعتبر أن استمرار هذا السلاح هو أحد أسباب عدم اكتمالها.


و بين منطق “سلاح الضرورة” ومنطق “السيادة غير القابلة للتجزئة”، يقف العراق أمام معادلة دقيقة لا تحتمل الحلول السطحية أو القرارات المتسرعة.


ويرى مراقبون أن نقطة الالتقاء الممكنة بين الطرفين تكمن في الاعتراف المتبادل بالحقائق؛ اعتراف الدولة بدور الفصائل في مرحلة الخطر الوجودي، واعتراف الفصائل بأن منطق الدولة لا يستقيم مع تعدد مصادر القوة.و يذهب هؤلاء إلى أن الحل الحقيقي لا يكمن في الغلبة أو الإقصاء، بل في حوار وطني عميق يعالج جذور المشكلة، ويؤسس لمرحلة انتقالية واضحة المعالم تنقل البلاد من منطق السلاح إلى منطق المؤسسة.


في المحصلة، يبقى ملف حصر السلاح بيد الدولة اختبارًا حقيقيًا لقدرة النظام السياسي العراقي على إدارة التناقضات التي أفرزها تاريخه الحديث.


فإما أن يتحول هذا الملف إلى فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس واقعية وتوافقية، أو يبقى ورقة خلاف مفتوحة تعكس أزمة أعمق في تعريف السلطة والسيادة والأمن.



مركز صوت 2025