أبو عبيدة ..إعلان الاستشهاد و خطاب العتاب الذي هزّ الشارع العربي .


بإعلان استشهاد أبو عبيدة، المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام، لا يطوى فصلٌ عابر من فصول الصراع، بل تُختتم مرحلة كاملة من الخطاب و الموقف و الرمزية.


لم يكن أبو عبيدة مجرد ناقل بيانات عسكرية أو قارئ تطورات ميدانية، بل كان صوتاً تشكّل عنده المعنى، وتكثّفت فيه الحكاية، وتحوّل إلى مرآة لوجع غزة و صمودها.


على امتداد سنوات ظهوره، اختار أبو عبيدة المعرف بـ ( حذيفة الكحلوت) و هو قائد دائرة الاعلامي العسكري لكتائب القسام أن يكون حاضراً بلا صورة، معروفاً بلا اسم، ومؤثراً بلا سيرة شخصية. كان الغياب المتعمَّد لملامحه رسالة بحد ذاتها: القضية أولاً، والفكرة قبل الشخص، والموقف قبل الشهرة. في زمن باتت فيه الصورة أقوى من المضمون، أعاد أبو عبيدة الاعتبار للكلمة المجرّدة، للكلمة التي تُقال في وقتها، وتُصاغ بميزان دقيق، وتُلقى بثبات لا يعرف الارتباك.


لم تكن بياناته مجرد سرد لما يجري في الميدان، بل إعادة تشكيل للمعنويات. خرج في أحلك اللحظات، حين كان القصف ينهال بلا هوادة، وحين كانت غزة تُحاصر بالنار والصمت معاً، ليقول إن المعركة ليست أرقاماً ولا خرائط، بل إرادة شعب يرفض أن يُمحى. في كل ظهور، كان صوته يحمل نبرة من يعرف ثمن الكلمة، لكنه لا يتراجع عنها.


واحدة من أكثر المحطات رسوخاً في ذاكرة المتابعين، كانت لحظة العتاب العلني التي وجّهها أبو عبيدة إلى الدول العربية والإسلامية. لم يكن العتاب ناعماً، ولا مغلفاً بالمجاملات السياسية، بل جاء صريحاً، قاسياً، ومباشراً. عاتب باسم الدم المسفوك، وباسم الأطفال تحت الركام، وباسم مدينة تُقصف ولا تجد إلا البيانات.


في تلك اللحظات، لم يتحدث بوصفه متحدثاً عسكرياً، بل بوصفه ضميراً ناطقاً باسم شارعٍ غاضب، يرى أن الصمت لم يعد موقفاً محايداً، وأن الاكتفاء بالإدانة لا يوقف حرباً ولا ينقذ حياة.


ذلك العتاب، الذي أثار جدلاً واسعاً، كان تعبيراً عن شجاعة نادرة في مخاطبة القريب قبل البعيد، و الحليف قبل الخصم. لقد وضع أبو عبيدة الأنظمة أمام أسئلة التاريخ، لا من موقع الاستعلاء، بل من موقع الألم، ومن قلب معركة يدفع ثمنها شعب أعزل. بهذا، تجاوز خطابه حدود الجغرافية، وتحول إلى حدث عربي وإسلامي بامتياز.


استشهاد أبو عبيدة لا يُقرأ فقط كخسارة شخصية، بل كتحوّل رمزي. فهو الرجل الذي أثبت أن المعركة ليست بالسلاح وحده، بل بالرواية أيضاً. و أن الصوت المنضبط، حين يكون صادقاً، يمكن أن يصمد أمام أعتى آلات التشويه و التضليل. لقد فهم باكراً أن الحرب الحديثة تُدار بالكلمة كما تُدار بالنار، وأن المعركة على الوعي لا تقل شراسة عن المعركة على الأرض.


في وداعه، يشعر كثيرون أن مرحلة من الوضوح القاسي قد انتهت. مرحلة كان فيها الخطاب مباشراً، غير ملتف، لا يراوغ في توصيف الألم ولا يساوم في تحديد المسؤوليات. ومع ذلك، فإن غيابه الجسدي لا يعني غياب أثره؛ فالكلمات التي قالها، والمواقف التي اتخذها، ستبقى محفوظة في الذاكرة الجمعية، تُستعاد كلما تكررت الأسئلة ذاتها، وكلما عاد الصمت ليثقل المشهد.


هكذا يُرثى أبو عبيدة: كرجل اختار أن يكون صوتاً لا صورة، وموقفاً لا اسماً، ورسالة لا سيرة. رحل كما عاش في خطابه: ثابتاً، واضحاً، ومشحوناً بالمعنى. وفي نظر مناصريه، لم يسقط الصوت، بل ارتقى، ولم تنتهِ الحكاية، بل انتقلت من زمن الحضور إلى زمن الرمز.


قد يختلف الناس حوله، لكنهم لا يختلفون على أن أبو عبيدة كان علامة فارقة في خطاب الصراع. علامة قالت إن بعض الأصوات، حين تُولد من المعاناة، لا تموت بالاستشهاد، بل تبدأ حياة أخرى… في الذاكرة،  و في الوجدان،  وفي السؤال المفتوح الذي تركه خلفه: ماذا بعد كل هذا الصمت؟..

كتابة : حسين الوائلي 

مركز صوت 2025